خلل إداري أم سياسة إقصاء؟.. مأساة المهاجرين تتفاقم مع تأخير بطاقات الإقامة في فرنسا

عربي بوست
تم النشر: 2025/07/30 الساعة 08:27 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/07/30 الساعة 08:33 بتوقيت غرينتش
البيروقراطية تفاقم أزمة بطاقة الإقامة في فرنسا (رويترز)

أمام مقر محافظة باريس الكبرى، يصطف عشرات المواطنين الأجانب في طوابير طويلة تمتد منذ ساعات الفجر الأولى، بعضهم اضطر للمبيت على الأرصفة أو في المنتزهات المجاورة لتفادي الانتظار المضني خلال النهار، واستباقاً لتقديم طلبات تجديد أو الحصول على بطاقة الإقامة.

يوسف، مهندس مغربي في الثلاثينيات من عمره، أحد هؤلاء. يقول لـ"عربي بوست" إنه مهدد بفقدان عمله بسبب قرب انتهاء صلاحية بطاقة إقامته، موضحاً: "كنت أحمل بطاقة إقامة بصفة طالب، وبعد تخرجي وتوظفي، تقدّمت بطلب تغيير الوضعية إلى موظف عبر آلية قانونية تُعرف بـ changement de statut. لكن، للأسف، لم يتم البت في طلبي حتى الآن، رغم مرور أشهر وتوجهي بعشرات الرسائل الإلكترونية والبريدية دون أي رد. لا أفهم السبب، رغم أني احترمت جميع الشروط وقدمت ملفاً مستوفياً لكل المعايير".

يوسف ليس حالة معزولة، بل واحد من عشرات الآلاف من المقيمين الذين يواجهون تدهوراً مقلقاً في أداء الإدارات المختصة، سواء بسبب أعطال تقنية متكررة، أو ضعف التواصل، أو تحديد مهل زمنية غير قابلة للتحقيق، مما يضع طالبي تجديد الإقامة في مواقف معقدة وصعبة.

مامادو، مواطن مالي مقيم في فرنسا منذ عقدين، يعبر عن غضبه قائلاً: "بعد عشرين سنة هنا، لم أتخيل يوماً أن أجد نفسي في وضع غير قانوني بسبب تقاعس وزارة الداخلية عن القيام بواجبها". ويتابع بنبرة يملؤها الاستياء: "لا أفهم جدوى وضع عناوين بريد إلكتروني على مواقعهم إذا كانوا لا يردون على استفساراتنا، هل هو تجاهل متعمّد أم نتيجة نقص في الموارد البشرية؟ لا أدري، لكن ما أنا متأكد منه هو أن النتيجة كارثية، ولا أحد يتحمل المسؤولية سوى الحكومة ومؤسساتها".

من أبرز العراقيل التي يواجهها المتقدمون للحصول على أو تجديد بطاقات الإقامة، هي مسألة مواعيد استلامها. فرغم تلقي بعضهم رسائل نصية تؤكد قبول ملفاتهم، يصطدمون لاحقاً بعدم وجود أي موعد متاح للسحب، ما يؤدي في بعض الحالات إلى انتهاء صلاحية الوثيقة قبل استلامها.

هذا الوضع فَتح الباب أمام سوق سوداء على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تنشط مجموعات وساطة تبيع المواعيد مقابل مبالغ قد تصل إلى مئات اليوروهات. ويعتمد أصحابها على برامج وتطبيقات تقوم بمراقبة المواعيد المتاحة طيلة اليوم وحجزها تلقائياً، قبل إعادة بيعها للمحتاجين.

الحكومة الفرنسية أعلنت أنها اتخذت إجراءات لمكافحة هذه الظاهرة، من بينها تثبيت اختبارات "كابتشا" لمنع الحجز عبر الروبوتات، وتطوير آليات تقنية تحد من الاستخدام المفرط للنظام، إضافة إلى نظام رقابة أوتوماتيكي يمنع التكرار في الحجوزات أو إدخال أرقام هواتف غير صالحة.

لكنها شددت في الوقت ذاته على ضرورة تحقيق توازن بين منع الاستغلال المفرط للنظام وضمان الوصول السلس للخدمة، لا سيما بالنسبة للفئات التي تواجه صعوبات رقمية أو في وضعيات إدارية هشّة.

من الناحية القانونية، لا يوجد حالياً إطار تنظيمي واضح يضبط عمليات الوساطة في حجز المواعيد نيابة عن المستخدمين، ما يترك ثغرة يستغلها البعض بلا مساءلة.

القضاء يدين محافظة باريس

في ظل تفاقم أزمة تأخر البت في طلبات الإقامة وغياب التفاعل من طرف بعض المحافظات الفرنسية، يجد العديد من الأجانب أنفسهم مضطرين إلى اللجوء للقضاء الإداري من أجل انتزاع حقوقهم القانونية. بلال، مواطن جزائري، يُجسد نموذجاً حياً لهذه المعاناة.

وصل بلال إلى فرنسا سنة 2016 بتأشيرة إقامة طويلة الأمد كطالب، قبل أن يتمكن لاحقاً من تسوية وضعيته القانونية والحصول على بطاقة إقامة بصفته موظفاً، ما مكّنه من الإقامة بشكل قانوني إلى غاية أكتوبر 2024.

وفي 12 سبتمبر من نفس العام، تقدم بطلب للحصول على بطاقة إقامة لمدة عشر سنوات لدى محافظة شرطة باريس، إلا أنه لم يتلقّ أي رد، وهو ما يُعتبر قانونياً بمثابة رفض ضمني للطلب.

أمام هذا الوضع، لجأ محامي بلال إلى القضاء المستعجل مطالباً بتعليق هذا الرفض، ومنح موكله بطاقة إقامة مؤقتة تتيح له العمل خلال سبعة أيام، وإلزام المحافظة بإعادة دراسة طلبه في أجل أقصاه شهران.

واعتبر المحامي أن قرار المحافظة يُخالف بنود الاتفاق الفرنسي الجزائري لسنة 1968، وينتهك أيضاً الحق في الحياة الخاصة والعائلية، كما يُعد خرقاً لمبادئ إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789، خاصة أن بلال حُرم من زيارة والده المريض في الجزائر، وتعرّض لفقدان عمله نتيجة تعليق وضعه القانوني.

وبعد دراسة الملف، اعتبرت القاضية المكلفة بالأمور المستعجلة في المحكمة الإدارية بباريس أن شرط الاستعجال قائم، وأدانت محافظة شرطة باريس بسبب "الصمت الإداري" تجاه طلب بلال.

وفي حكم صدر بتاريخ 27 يونيو 2025، قررت القاضية تعليق قرار الرفض الضمني، وأمرت بمنح بلال تصريح إقامة مؤقت خلال سبعة أيام مع رخصة للعمل، إلى جانب إعادة دراسة ملفه في أجل لا يتجاوز شهراً.

نظام إلكتروني "غير فعال"

في إطار جهودها لتخفيف العبء عن موظفيها وتبسيط إجراءات طلب تصاريح الإقامة، أطلقت المديرية العامة للأجانب في فرنسا (DGEF) سنة 2015 المنصة الرقمية للأجانب (ANEF)، ضمن استراتيجية وطنية للتحول الرقمي بدأتها الدولة منذ عام 2013.

الهدف المعلن كان تمكين الأجانب من تقديم طلباتهم إلكترونياً، وتتبّع مراحل معالجة ملفاتهم، وتقليص زياراتهم للمصالح الإدارية، خاصة في ظل الصعوبات المستمرة في الحصول على مواعيد عبر الإنترنت.

غير أن تعميم هذه المنصة بشكل متسرّع ومن دون تجارب كافية، ساهم في تعميق معاناة المرتفقين بدل التخفيف منها. فقد نبّهت مؤسسة "المدافع عن الحقوق" والمجلس الوطني لنقابات المحامين (CNB) منذ سنوات إلى تفاقم العراقيل، حيث لم يعد الأمر يقتصر على صعوبة حجز موعد، بل امتد ليشمل تعطيل دراسة الطلبات وتأخير أو رفض تسليم وتجديد بطاقات الإقامة.

محامون فرنسيون يرون أن هذه العراقيل لا تُقوّض فقط حق الأجانب في الوصول إلى الإجراءات القانونية، بل تتسبب أيضاً في تضخّم النزاعات أمام المحاكم، مما يُثقل كاهل النظام القضائي ويُضعف الدور الأساسي للمحامي، ويُكرّس خللاً في مبدأ المساواة، ويعكس هشاشة الإمكانات البشرية والمادية داخل الإدارات المعنية.

خلال عام 2024، دقّت عدد من النقابات المحلية للمحامين ناقوس الخطر، عبر مخاطبتها المجلس الوطني لنقابات المحامين بشأن ما وصفته بـ"ممارسات ممنهجة" لتجاهل ملفات الأجانب ورفض طلبات الطعن والمساعدة القضائية، وهو ما رُصد في العديد من الدوائر القضائية بدرجات متفاوتة.

في مواجهة هذا الوضع، تقدمت النقابة بعدة توصيات، أبرزها: تحسين الوصول إلى المعلومات، وتوفير حلول بديلة ناجعة، واعتماد تسليم تلقائي لشهادات تمديد دراسة الطلب، وإرفاق شهادات الإيداع بتصريح عمل مؤقت، ومنح شهادات القرار الإيجابي نفس الامتيازات القانونية التي تُمنح لاحقاً لحاملي بطاقة الإقامة.

أما في ما يتعلق بصعوبات ممارسة الطعون، فقد دعت النقابة إلى توضيح مفهوم "الاستعجال" وضمان عدم استخدامه كوسيلة لتصفية الملفات. كما أوصت بضرورة إرفاق الأحكام القضائية بغرامات تهديدية لضمان تنفيذها الفعلي، وبالتالي فرض احترام القانون من قِبل الإدارة.

تأخيرات تصل إلى 8 أشهر

رغم وعود الرقمنة وتحديث الإدارة، تُظهر الأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة الداخلية الفرنسية نفسها مدى تفاقم أزمة معالجة طلبات الإقامة. فقد ارتفعت المدة المتوسطة لتجديد بطاقات الإقامة من 60 يوماً في عام 2022 إلى 76 يوماً في 2024.

وذلك دون أن توفّر الوزارة توضيحات دقيقة بخصوص آجال معالجة الطلبات الأولية في بعض المحافظات، تجاوزت التأخيرات سبعة أو حتى ثمانية أشهر، ما يضع أصحاب الملفات في أوضاع قانونية واجتماعية هشّة.

وفي عام 2023، شكّلت الشكاوى المتعلقة بتصاريح الإقامة نحو 28% من مجمل التظلمات المقدّمة إلى مؤسسة "المدافع عن الحقوق"، وكان أكثر من 75% منها مرتبطاً بصعوبات في التعامل مع الإدارات المحلية، سواء عند تقديم الطلب لأول مرة أو أثناء التجديد.

هذا الواقع يطرح تساؤلات جوهرية حول فعالية المنصة الرقمية للأجانب (ANEF)، التي أُطلقت بهدف تبسيط الإجراءات وتحسين سير المعاملات.

لكن الوقائع الميدانية تُظهر أن هذه الأداة، التي شُرع في تعميمها دون اختبارات كافية، ما تزال تعاني من أعطاب وظيفية وتقنية متعددة، نتيجة التصميم غير المدروس، والتحديثات المجزأة، ونقص المعلومات المتاحة للمستخدمين.

كما أن الخدمات المُسانِدة الموجهة للفئات الهشة رقمياً — مثل "مركز الاتصال المواطن" (CCC) و"نقاط الاستقبال الرقمية" (PAN) — لم ترقَ إلى مستوى التحديات، في ظل ضعف التواصل، وصعوبة الولوج، وقصور تأهيل العاملين، ونقص الموارد البشرية.

وفي تعليق سياسي حاد، اعتبر زياد همدر، النائب عن حزب "فرنسا الأبية"، أن ما يجري هو "بيروقراطية منظمة" تهدف إلى إضعاف فئات بعينها، خصوصاً الطلبة الأجانب.

وأضاف: "نحن أمام استراتيجية ممنهجة تقوم على تقليص الموارد من أجل حرمان جزء من السكان من حقهم في خدمة عمومية محترمة، كما هو الحال أيضاً في قطاعات أخرى كالصحة والتعليم".

وأشار إلى أن هذه الفئات الهشة أصبحت اليوم أكثر عرضة لأوامر مغادرة التراب الفرنسي (OQTF)، التي تُطبق بشكل سريع وروتيني، دون منحهم فرصة فعلية للدفاع عن أنفسهم.

انتهاكات خطيرة لحقوق المستخدمين

حين يُمنع الأجنبي من الوصول إلى إجراء إداري أو يُحرم من استكماله، فإن خطر تحوّله إلى حالة إقامة غير قانونية يصبح قائماً، حتى لو كان مستوفياً لكل الشروط القانونية. فالأعطاب التقنية والإدارية التي تشوب منصة ANEF لا تُعد مجرد مشاكل شكلية، بل تُخلّف تبعات مباشرة وخطيرة على حياة الأجانب في فرنسا.

إذ قد يفقد البعض حقهم في الإقامة، وبالتالي يفقدون مشروعية العمل، أو يتم تعليق مساعداتهم الاجتماعية، أو يُحرمون من ولوج الخدمات الصحية، وقد يطال الأثر حتى الأطفال الذين يُضطرون إلى الانقطاع عن الدراسة بسبب الوضع القانوني المتعثر لآبائهم.

ونظراً لحجم هذه الانتهاكات وخطورتها، رأت مؤسسة "المدافع عن الحقوق" أن الوضع يستدعي تدخلاً عاجلاً، وقدمت 14 توصية مركزية لضمان حق المرتفقين في الولوج الفعلي إلى حقوقهم الأساسية. من بين أبرز هذه التوصيات:

  • إدراج بند في قانون دخول وإقامة الأجانب وحق اللجوء (CESEDA) يضمن حق الأفراد في إتمام الإجراءات الإدارية عبر وسيلة غير رقمية، ودون شروط مسبقة؛
  • إصدار شهادات تمديد دراسة الطلب (API) بشكل تلقائي؛
  • إنشاء شهادة رقمية مؤقتة تُمنح للأشخاص الساعين لتسوية أوضاعهم بعد التأكد من استكمال ملفاتهم، وتخوّل لهم التمتع بالحقوق الأساسية ريثما يُبت في طلبهم؛
  • تحسين وتحديث المعلومات المتاحة على المواقع الرسمية للمقاطعات بخصوص إجراءات طلب الإقامة، لضمان الوضوح وتفادي اللبس.

وفي تعليق سياسي على خلفية هذا الوضع، اعتبر زياد همدر، عضو حزب "فرنسا الأبية" (LFI)، أن المعنيين بهذه الانتهاكات يمثلون فئة مستضعفة يسهل استهدافها، قائلاً: "نحن أمام ضحايا مثاليين في سياق تشهد فيه فرنسا تصاعداً في الخطاب العنصري داخل الأوساط السياسية والإعلامية، باستثناء بعض القوى التقدمية التي لا تزال تدافع عن المهاجرين وحقوقهم".

وأضاف: "باختصار، ما نراه اليوم هو عرض من أعراض انهيار المنظومة الفرنسية، في وقت يشهد فيه العالم اضطراباً شاملاً لا يجعل من فرنسا استثناءً".